الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد؛
فقد أَظْهَرَتْ أَزْمة الأقصى الأخيرةُ وبِناءُ اليهود لـ"كَنِيسِ الخَرَابِ" على بُعْدِ أَمتَارٍ مِنَ المسجد الأقصى، بَعْدَ ضَمِّ إسرائيلَ للمسجد الإبراهيمي ومسجدِ بلال بن رباح للآثار اليهودية، وعزمِهم على هَدْم مسجد سلمانَ الفارسيِّ -وربما قد فعلوه-، واحتفالِ حاخاماتِهم الصَّاخِبِ المَاجِنِ الشَّامِتِ بالمسلمين بافتتاح مَعبَد موسى بن مَيْمُون بالقاهرة، واستمرارِ حصار غزة وبِنَاءِ الجِدَار الفُولاذي -لتعميق الحصار وإكمال الخَنْق-؛ أظهر كُلُّ ذلك -وغَيْرُهُ كَثِير- مدى عَجْز الأمَّة وتَفَرُّقِها واستضعافِها، وفـَقـَدَ صَانِعُو القرار فيها قـُدرتَهم على مُجرَّد اتخاذ مَوقِف يُعبِّر عن هُوُيَّة الأمَّة، بل فـَقـَدُوا إرادتَهم في تغيير الواقع الأليم أو الأخذِ بالأسباب التي تـُخرِج الأمَّةَ مِنَ النَّفـَق المُظـْلِم الذي يُراد لها أن تَسِيرَ فيه.
وأصبح صَبْغُ المجتمعات بمَبادئ النظام العالمي الجديد -القديم في حقيقته- أمْرًا واقعًا يُفرَض على الأمَّة، بل على عُلمائها ودُعاتها، فمَن قـَبـِل أن يَسِيرَ في الرَّكْب ويَدُورَ في الفـَلَك ويُرَدِّدَ ما يَهْدِمُ وَلاءَ المسلمين لدينهم وتَمَسُّكَهم بشَريعتهم وأخلاقِهم؛ فهو المُقـَدَّمُ المَفـْتُوحُ له الأبواب! ومَن أَبَى؛ فـَلَهُ الطـَّرْدُ والإبعادُ والإيقافُ والمَنـْعُ!، فلن تَعود -عند القوم- عَجَلةُ التاريخ إلى الوَرَاء! ولن يَسمحوا -لو كان الأمر لهم- بمَن يَرجِع إلى التَّخَلُّف! الذي هو عندَهم صُورةُ المُجتمَع المسلم إبَّان الحياة الإسلامية؛ وذلك فيما يَتعلق بقضايا الوَلاء والبَرَاء -خُصُوصًا- ومَوْقِفِ الأمَّة مِن أعدائها المُحتلِّينَ لبلادها المُسيطِرينَ على اقتصادِها وسياستِها ونُظـُمِ تَعليمِها وإعلامِها وقوانينِها، وكذا قَضيةِ الشَّرِيعة والتزامِها، وقَضيةِ وَضْعِ المَرْأة في المُجتمَع، وما يَتعلق بمُقرَّرات مؤتمراتهم الرَّامِيةِ إلى تخريب ما تَبقـَّى من عِفـَّة أو طهارة، وقَضيةِ المَرجعية في مَصَادر التشريع، وقَضيةِ المَوقِفِ مِنَ المِلَلِ الأخرى، وغَيرِ ذلك مِمَّا يُمَيِّزُ الحضارةَ الإسلاميةَ عن الغرب وأذنابِه مَنَ المنافقين.
ويَقف العلماء والدعاة حيارى أمامَ أسئلة الشباب: ماذا نصنع؟ وماذا نُقدِّم لديننا وأمتنا؟! وهم يَرَوْنَ الآلامَ والمِحَنَ تتضاعف، ويعلمون أنهم لا يملكون إلا أنفسَهم وإخوانَهم الذين لا يملكون شيئًا ماديًّا يَصنعونه! والأمَّةُ في مُفـْتَرَقِ طـُرُقٍ، بل حَافـَّةٍ هَاوِيَةٍ وفـَوْضًى وخَطـَرِ تَقسيمٍ بَعْدَ التَّقسيمِ والتَّقطيعِ وفِتَنٍ ومَلاحِمَ -نسأل الله أن يُسَلِّمَنا مِنها-، ونحن على يقين مِن أن نتيجةَ الصراع محسومةٌ لصالح الإسلام وأهلِه المتمسِّكين به؛ طالَ الزَّمَنُ أو قـَصُر، ومَهْمَا حاولَ الأعداءُ؛ وهم يُحاولون بمَكر الليل والنهار بلا تَوَقـُّف أن يُطفئوا نُورَ الله بأفواههم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32-33].
واللهُ يُدَاوِلُ هذه الأيامَ بين الناس؛ لِيَستخرجَ مِنَ المؤمنين ما يُحِبُّ؛ مِن عِبادة الاستعانةِ والصبرِ، ولِيَعلمَ الذين آمنوا وَسْطَ أمواجِ الكفر والنـِّفاق عِلْمًا يُحاسِبُهم عليه، ولِيَمتحنَ منهم الشهداءَ، ويُمحِّصَ الذين آمنوا، ويَمحقَ الكافرين -بعَدْله وحِكمته- على عُدْوَانهم وظلمِهم وبَغـْيِهِم.
في آياتٍ مِن سورة يونس تأتي جُمْلَةٌ مِنَ التوجيهات القرآنية للأمَّة مِن خلال قصة موسى -عليه السلام- في مَرحلة مُشابهةٍ لِمَا فيه أمَّتُنا مِنَ البَلاء والمِحْنة؛ تَحْمِلُ الجوابَ عن السؤال المُحَيِّر: ماذا نصنع؟!
قال الله -تعالى-: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 84-89].
إنَّ موازينَ القـُوَى ليست بأيدي البشر؛ فإنَّ الله -تعالى- هو القـَوِيُّ العَزيز، وفي لحظةٍ تتبدل الأحوالُ؛ فيَمُوتُ هذا ويَمرَضُ هذا، ويُعَزُّ هذا ويُذَلُّ هذا، ويُقـَوَّى هذا ويُضَعَّفُ هذا، ويُسْعَدُ هذا ويُشْقـَى هذا، وكُلُّ ذلك بأوامرَ إِلَهِيَّةٍ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]؛ فيَغفِرُ ذنبًا، ويُفـَرِّجُ كربًا، ويَنْصُرُ مَظلومًا، ويَكْسِرُ جَبَّارًا، ويُؤْتِي المُلْكَ مَن يَشاء، ويَنزِعُهُ مِمَّن يَشاء، ويَجْمَعُ قلوبَ قـَوْمٍ يُؤَلِّف بينهم بَعْدَ عَداوتِهم، ويُفـَرِّقُ جُمُوعًا بَعْدَ اتفاق كَلِمَتِهِم.
وشُهودُ آثارِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه وتوحيدُه بها -الذي هو الإيمان- يَدفع العبدَ دفعًا إلى التوكل عليه وَحدَه، والاستنصارِ به وَحدَه، والاستعانةِ به وَحدَه، والتسليمِ لأمْرِه، والامتثالِ لطاعته -الذي هو الإسلام-؛ فالإسلامُ والإيمانُ يَستلزمانِ كمالَ التوكل على الله -تعالى-، ورُبَّمَا قدَّرَ اللهُ -تعالى- انقطاعَ الأسباب عن المؤمنين واجتماعَ الكفار على رَمْيهم بقوس واحدة مع قِلَّتِهم وضَعفهم؛ لِيَتمحَّصَ توكلُهم على الله -تعالى- وَحدَه مع تمسُّكِهم بمقتضيات الإيمان والإسلام؛ فهذا هو التوجيه الأول في قول موسى -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}، وتأمَّلْ تقديمَ الجارِّ والمَجرور على الفِعل والفاعل في {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}؛ الذي يُفيد الاختصاصَ والاهتمامَ، أي: عليه وَحدَه توكلوا؛ فهذا مِن أعظم واجباتكم.
ثم تأتي الأوامر الربانية للقيادة المؤمنة باتخاذ البيوت للأتباع: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، وتَبَوَّءَا؛ أي: اتَّخِذَا، وهذا يَحصل مِن توثيق الروابط بين أفراد الأمة وقيادتِها المؤمنة -ولو كانت تحت سُلطان الكفار في الظاهر-، وقد ظهرت ثمرة هذه الرابطة القوية عندما صَدَرَ الأمْرُ الإلهي: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52]؛ فتحرَّك بنو إسرائيلَ -وهم يومَئذ يُقدَّرون بمئات الألوف أو عَشَرَاتِها على أدنى تقدير- معهم أُسَرُهم وزوجاتُهم وأبناؤهم وبناتُهم وعجائزُهم، بل ورُفـَاتُ بعض مَوْتاهم! ولولا هذا الترابط لما أمكن هذا التحرك.
ولو تأملتَ نجاحَ طالبان في المُقاومة الرائعة المشرِّفة للاحتلال؛ لوَجدتَ مِن وراء ذلك وَحْدَةَ القِيادة، نسأل الله أن يَجمع كلمتَهم على الحق، وأن يُنزل عليهم نصرَه وتأييدَه.
ولو تأملتَ حال الأمة أيامَ تحرير المسجد الأقصى مِنَ الصليبيين؛ لوَجدتَ أنَّ وَحْدَةَ القِيادة والروابطَ الوَثيقةَ بين الأمَّة وقيادتِها -مُتمثلةً في نور الدين محمود ثم صلاح الدين -رحمهما الله- مِن أعظم أسباب النصر. أما إذا كُنَّا لا نزال في مَرحلة {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]؛ فما يَزال أمامنا طريقٌ طويل قبل التحرُّك المطلوب! فهل نَعِي هذا الدرسَ العظيمَ؟!
ثم يأتي التوجيه الثاني:
{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}؛ وفيه تفسيرانِ كلاهما حَقٌّ:
الأول: صَلُّوا في بُيوتكم؛ حيث عَجَزُوا عن المساجد.
الثاني: اجعلوها يُقابِل بَعضُها بَعضًا.
فالأول: إقامة الصلاة، وقد أتى بعد ذلك صَرِيحًا في قوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}؛ فيكون توكيدًا لهذا المعنى أو تأسيسًا له لو حُمِلَتْ الآيةُ على المعنى الثاني، فالصلاة أعظم واجبات الإسلام بعد الشهادة بالتوحيد والرِّسالة، وهي مَفزَعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمْرٌ، وهي مِفتاحُ أنواع الخير، ومَحَلُّ الدعاء والاستغاثة بالله -تعالى-، ومَحَلُّ تدبُّرِ آياتِ القرآن وفـَهمِ أوامرِه وتوجيهاتِه، ومَحَلُّ الاستنصارِ ونُزولِ المِنَنِ والهِبَاتِ الإلهيةِ على عِباده، ولقد وَقـَفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طِيلةَ ليلةِ بدر تحتَ شجرة يُصلِّي حتى وُهِبَ النصرَ، ووَقـَفَ يُصلِّي ليلةَ الأحزاب طـَوَالَ الليل حتى نـَزَلَ النصرُ، ووُهِبَ زكريا -عليه السلام- يحيى وهو قائمٌ يصلي في المحراب، فالصلاة قـُرَّةُ عين المؤمن، بها يَتغيَّر وَجه العالم، فهل قـُمنا بذلك وغيَّرنا مَوازينَ الحياة؟! هل وَعَيْنا الدرسَ؟!
والمعنى الثاني: واجعلوا بيوتكم يُقابِل بَعضُها بَعضًا؛ فهذا فيه تَرَابطُ أفراد الأمَّة بَعضُهم ببعض؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، والمؤمنون كالجسد الواحد، والتَّجاورُ في المَساكن والتَّزاورُ وتفقـُّدُ الأحوال إنما يَرمِي إلى تحقيق هذا الهدف وإزالةِ ما يُمكِن أن يوجد مِن اختلافات وتفرُّقات ومُنازعات.
إنَّ قوةَ الترابط بين أفراد الأمة وقِلَّةَ التنازع لهو سِمِةٌ ضروريةٌ للطائفة المؤمنة المُهَيَّأَةِ للتمكين، أفتـَرَونَ أمَّةً تتنازع وهي في مرحلة الاستضعاف؛ ماذا يصنع بعضُها ببعض إذا مُكِّنَ لها وعند وجود السلطان والمال والسلاح؟!؛ إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يَخشى على أصحابه الذين رباهم على عَيْنه أن تُفتَح عليهم الدنيا، فيتنافسوها كما تنافسها مَن قبلَهم؛ فتهلكهم كما أهلكتهم؛ فما تَرَوْنَ فيمن بَعدَهم ممَّن لم يَتَرَبَّ مِثلهم، ولا أَخلَصَ مِثلهم، ولا صَدَقَ مِثلهم؟!
إنَّ ضَعفَ الروابط بين الأفراد وكثرةَ المنازعات مِن علامات إرادة الدنيا وضعفِ الإخلاص والصدق؛ ممَّا تكون مصلحة الأمَّة فيه أن تبقى في فترة الإحراق ولا تتحول إلى فترة الإشراق؛ لأن فترةَ المِحنة تؤدي إلى خُمود الأمراض، وفترةَ التمكين تؤدي إلى ظهور الأعراض لهذه الأمراض.
فهل نعي الدرس ويُحِبُّ بعضُنا بعضًا، ويَحتمل بعضُنا بعضًا، ويَرحَم بعضُنا بعضًا، ويُشفِق بعضُنا على بعض، ويَنصَح بعضُنا بعضًا، ويَقبَل كلٌّ منا نصيحةَ الآخَر، ونُحقـِّق الأخُوةَ التي يَزول معها البُؤس بما يَفعل الأعداءُ {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]، أم ما زال بعضُنا يُوالي أعداءَ أمته على حساب إخوَتِه؟!
ثم يأتي التوجيه الثالث: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}: للتوكيد على المعنى الأول، أو لتأسيس هذه الضرورة للطائفة المؤمنة في كل أوقاتها، وقد سَبَق بيانُه وأهميتُه.
ثم يأتي التوجيه الرابع: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: وهذا الأمر من أعظم الأمور أهمية، خُصُوصًا في فترات الشدة والضيق التي قد يَتسلل اليأسُ فيها إلى القلوب؛ لِيَقطعَ على السائرين إلى الله طريقـَهم، والبِّشَارةُ مُهمَّة الرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ قال -تعالى-: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45-46]، وهي مُهِمَّةٌ وَرِثَهَا أهلُ العلم عنهم؛ ليقوموا بها في الأمة حتى تستمر مسيرتُها مُوقنةً بوَعد الله.
وإذا كان الأعداء يَخترعون التكهُّنات ليحافظوا على مسيرتهم رغم ثبوت كذبِها وخُلْفِها، وما تكهُّنُ أَحَدِ حاخاماتهم بأن يكون يومُ 16-3-2010م يومَ بناء الهيكل الثالث إلا واحدًا مِن هذه التكهنات الكاذبة الباطلة التي لم تقع، وحاولوا أن يجعلوها رمزًا يَستنهِضون به عزائمَ اليهود في العالم نحو هدم الأقصى؛ فالمسلمون هم أصحاب الحق في بشارات الخير والنصر التي يمتلئ بها القرآنُ، وتمتلئ بها سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعلى الدعاة إلى الله أن يُكثروا مِن ذِكرها في خُطبهم ودروسهم؛ لأن اليأس يَدفع الكثيرين للاستسلام للواقع وقـَبول التبعية للأعداء والرِّضا بموالاتهم؛ وهذا يُفسِّر كيف صار مناضلو الأمس الذين كانوا يريدون إلقاء إسرائيلَ في البحر حلفاءَها اليومَ في قـَمْع ذويهم وإخمادِ ثورتِهم، بل تعذيبِهم وانتهاكِ حُرُماتِهم، بل سَفـْكِ دمائهم مِن أجل الأعداء!
فقد أَظْهَرَتْ أَزْمة الأقصى الأخيرةُ وبِناءُ اليهود لـ"كَنِيسِ الخَرَابِ" على بُعْدِ أَمتَارٍ مِنَ المسجد الأقصى، بَعْدَ ضَمِّ إسرائيلَ للمسجد الإبراهيمي ومسجدِ بلال بن رباح للآثار اليهودية، وعزمِهم على هَدْم مسجد سلمانَ الفارسيِّ -وربما قد فعلوه-، واحتفالِ حاخاماتِهم الصَّاخِبِ المَاجِنِ الشَّامِتِ بالمسلمين بافتتاح مَعبَد موسى بن مَيْمُون بالقاهرة، واستمرارِ حصار غزة وبِنَاءِ الجِدَار الفُولاذي -لتعميق الحصار وإكمال الخَنْق-؛ أظهر كُلُّ ذلك -وغَيْرُهُ كَثِير- مدى عَجْز الأمَّة وتَفَرُّقِها واستضعافِها، وفـَقـَدَ صَانِعُو القرار فيها قـُدرتَهم على مُجرَّد اتخاذ مَوقِف يُعبِّر عن هُوُيَّة الأمَّة، بل فـَقـَدُوا إرادتَهم في تغيير الواقع الأليم أو الأخذِ بالأسباب التي تـُخرِج الأمَّةَ مِنَ النَّفـَق المُظـْلِم الذي يُراد لها أن تَسِيرَ فيه.
وأصبح صَبْغُ المجتمعات بمَبادئ النظام العالمي الجديد -القديم في حقيقته- أمْرًا واقعًا يُفرَض على الأمَّة، بل على عُلمائها ودُعاتها، فمَن قـَبـِل أن يَسِيرَ في الرَّكْب ويَدُورَ في الفـَلَك ويُرَدِّدَ ما يَهْدِمُ وَلاءَ المسلمين لدينهم وتَمَسُّكَهم بشَريعتهم وأخلاقِهم؛ فهو المُقـَدَّمُ المَفـْتُوحُ له الأبواب! ومَن أَبَى؛ فـَلَهُ الطـَّرْدُ والإبعادُ والإيقافُ والمَنـْعُ!، فلن تَعود -عند القوم- عَجَلةُ التاريخ إلى الوَرَاء! ولن يَسمحوا -لو كان الأمر لهم- بمَن يَرجِع إلى التَّخَلُّف! الذي هو عندَهم صُورةُ المُجتمَع المسلم إبَّان الحياة الإسلامية؛ وذلك فيما يَتعلق بقضايا الوَلاء والبَرَاء -خُصُوصًا- ومَوْقِفِ الأمَّة مِن أعدائها المُحتلِّينَ لبلادها المُسيطِرينَ على اقتصادِها وسياستِها ونُظـُمِ تَعليمِها وإعلامِها وقوانينِها، وكذا قَضيةِ الشَّرِيعة والتزامِها، وقَضيةِ وَضْعِ المَرْأة في المُجتمَع، وما يَتعلق بمُقرَّرات مؤتمراتهم الرَّامِيةِ إلى تخريب ما تَبقـَّى من عِفـَّة أو طهارة، وقَضيةِ المَرجعية في مَصَادر التشريع، وقَضيةِ المَوقِفِ مِنَ المِلَلِ الأخرى، وغَيرِ ذلك مِمَّا يُمَيِّزُ الحضارةَ الإسلاميةَ عن الغرب وأذنابِه مَنَ المنافقين.
ويَقف العلماء والدعاة حيارى أمامَ أسئلة الشباب: ماذا نصنع؟ وماذا نُقدِّم لديننا وأمتنا؟! وهم يَرَوْنَ الآلامَ والمِحَنَ تتضاعف، ويعلمون أنهم لا يملكون إلا أنفسَهم وإخوانَهم الذين لا يملكون شيئًا ماديًّا يَصنعونه! والأمَّةُ في مُفـْتَرَقِ طـُرُقٍ، بل حَافـَّةٍ هَاوِيَةٍ وفـَوْضًى وخَطـَرِ تَقسيمٍ بَعْدَ التَّقسيمِ والتَّقطيعِ وفِتَنٍ ومَلاحِمَ -نسأل الله أن يُسَلِّمَنا مِنها-، ونحن على يقين مِن أن نتيجةَ الصراع محسومةٌ لصالح الإسلام وأهلِه المتمسِّكين به؛ طالَ الزَّمَنُ أو قـَصُر، ومَهْمَا حاولَ الأعداءُ؛ وهم يُحاولون بمَكر الليل والنهار بلا تَوَقـُّف أن يُطفئوا نُورَ الله بأفواههم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32-33].
واللهُ يُدَاوِلُ هذه الأيامَ بين الناس؛ لِيَستخرجَ مِنَ المؤمنين ما يُحِبُّ؛ مِن عِبادة الاستعانةِ والصبرِ، ولِيَعلمَ الذين آمنوا وَسْطَ أمواجِ الكفر والنـِّفاق عِلْمًا يُحاسِبُهم عليه، ولِيَمتحنَ منهم الشهداءَ، ويُمحِّصَ الذين آمنوا، ويَمحقَ الكافرين -بعَدْله وحِكمته- على عُدْوَانهم وظلمِهم وبَغـْيِهِم.
في آياتٍ مِن سورة يونس تأتي جُمْلَةٌ مِنَ التوجيهات القرآنية للأمَّة مِن خلال قصة موسى -عليه السلام- في مَرحلة مُشابهةٍ لِمَا فيه أمَّتُنا مِنَ البَلاء والمِحْنة؛ تَحْمِلُ الجوابَ عن السؤال المُحَيِّر: ماذا نصنع؟!
قال الله -تعالى-: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 84-89].
إنَّ موازينَ القـُوَى ليست بأيدي البشر؛ فإنَّ الله -تعالى- هو القـَوِيُّ العَزيز، وفي لحظةٍ تتبدل الأحوالُ؛ فيَمُوتُ هذا ويَمرَضُ هذا، ويُعَزُّ هذا ويُذَلُّ هذا، ويُقـَوَّى هذا ويُضَعَّفُ هذا، ويُسْعَدُ هذا ويُشْقـَى هذا، وكُلُّ ذلك بأوامرَ إِلَهِيَّةٍ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]؛ فيَغفِرُ ذنبًا، ويُفـَرِّجُ كربًا، ويَنْصُرُ مَظلومًا، ويَكْسِرُ جَبَّارًا، ويُؤْتِي المُلْكَ مَن يَشاء، ويَنزِعُهُ مِمَّن يَشاء، ويَجْمَعُ قلوبَ قـَوْمٍ يُؤَلِّف بينهم بَعْدَ عَداوتِهم، ويُفـَرِّقُ جُمُوعًا بَعْدَ اتفاق كَلِمَتِهِم.
وشُهودُ آثارِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه وتوحيدُه بها -الذي هو الإيمان- يَدفع العبدَ دفعًا إلى التوكل عليه وَحدَه، والاستنصارِ به وَحدَه، والاستعانةِ به وَحدَه، والتسليمِ لأمْرِه، والامتثالِ لطاعته -الذي هو الإسلام-؛ فالإسلامُ والإيمانُ يَستلزمانِ كمالَ التوكل على الله -تعالى-، ورُبَّمَا قدَّرَ اللهُ -تعالى- انقطاعَ الأسباب عن المؤمنين واجتماعَ الكفار على رَمْيهم بقوس واحدة مع قِلَّتِهم وضَعفهم؛ لِيَتمحَّصَ توكلُهم على الله -تعالى- وَحدَه مع تمسُّكِهم بمقتضيات الإيمان والإسلام؛ فهذا هو التوجيه الأول في قول موسى -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}، وتأمَّلْ تقديمَ الجارِّ والمَجرور على الفِعل والفاعل في {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}؛ الذي يُفيد الاختصاصَ والاهتمامَ، أي: عليه وَحدَه توكلوا؛ فهذا مِن أعظم واجباتكم.
ثم تأتي الأوامر الربانية للقيادة المؤمنة باتخاذ البيوت للأتباع: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، وتَبَوَّءَا؛ أي: اتَّخِذَا، وهذا يَحصل مِن توثيق الروابط بين أفراد الأمة وقيادتِها المؤمنة -ولو كانت تحت سُلطان الكفار في الظاهر-، وقد ظهرت ثمرة هذه الرابطة القوية عندما صَدَرَ الأمْرُ الإلهي: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52]؛ فتحرَّك بنو إسرائيلَ -وهم يومَئذ يُقدَّرون بمئات الألوف أو عَشَرَاتِها على أدنى تقدير- معهم أُسَرُهم وزوجاتُهم وأبناؤهم وبناتُهم وعجائزُهم، بل ورُفـَاتُ بعض مَوْتاهم! ولولا هذا الترابط لما أمكن هذا التحرك.
ولو تأملتَ نجاحَ طالبان في المُقاومة الرائعة المشرِّفة للاحتلال؛ لوَجدتَ مِن وراء ذلك وَحْدَةَ القِيادة، نسأل الله أن يَجمع كلمتَهم على الحق، وأن يُنزل عليهم نصرَه وتأييدَه.
ولو تأملتَ حال الأمة أيامَ تحرير المسجد الأقصى مِنَ الصليبيين؛ لوَجدتَ أنَّ وَحْدَةَ القِيادة والروابطَ الوَثيقةَ بين الأمَّة وقيادتِها -مُتمثلةً في نور الدين محمود ثم صلاح الدين -رحمهما الله- مِن أعظم أسباب النصر. أما إذا كُنَّا لا نزال في مَرحلة {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]؛ فما يَزال أمامنا طريقٌ طويل قبل التحرُّك المطلوب! فهل نَعِي هذا الدرسَ العظيمَ؟!
ثم يأتي التوجيه الثاني:
{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}؛ وفيه تفسيرانِ كلاهما حَقٌّ:
الأول: صَلُّوا في بُيوتكم؛ حيث عَجَزُوا عن المساجد.
الثاني: اجعلوها يُقابِل بَعضُها بَعضًا.
فالأول: إقامة الصلاة، وقد أتى بعد ذلك صَرِيحًا في قوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}؛ فيكون توكيدًا لهذا المعنى أو تأسيسًا له لو حُمِلَتْ الآيةُ على المعنى الثاني، فالصلاة أعظم واجبات الإسلام بعد الشهادة بالتوحيد والرِّسالة، وهي مَفزَعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمْرٌ، وهي مِفتاحُ أنواع الخير، ومَحَلُّ الدعاء والاستغاثة بالله -تعالى-، ومَحَلُّ تدبُّرِ آياتِ القرآن وفـَهمِ أوامرِه وتوجيهاتِه، ومَحَلُّ الاستنصارِ ونُزولِ المِنَنِ والهِبَاتِ الإلهيةِ على عِباده، ولقد وَقـَفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طِيلةَ ليلةِ بدر تحتَ شجرة يُصلِّي حتى وُهِبَ النصرَ، ووَقـَفَ يُصلِّي ليلةَ الأحزاب طـَوَالَ الليل حتى نـَزَلَ النصرُ، ووُهِبَ زكريا -عليه السلام- يحيى وهو قائمٌ يصلي في المحراب، فالصلاة قـُرَّةُ عين المؤمن، بها يَتغيَّر وَجه العالم، فهل قـُمنا بذلك وغيَّرنا مَوازينَ الحياة؟! هل وَعَيْنا الدرسَ؟!
والمعنى الثاني: واجعلوا بيوتكم يُقابِل بَعضُها بَعضًا؛ فهذا فيه تَرَابطُ أفراد الأمَّة بَعضُهم ببعض؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، والمؤمنون كالجسد الواحد، والتَّجاورُ في المَساكن والتَّزاورُ وتفقـُّدُ الأحوال إنما يَرمِي إلى تحقيق هذا الهدف وإزالةِ ما يُمكِن أن يوجد مِن اختلافات وتفرُّقات ومُنازعات.
إنَّ قوةَ الترابط بين أفراد الأمة وقِلَّةَ التنازع لهو سِمِةٌ ضروريةٌ للطائفة المؤمنة المُهَيَّأَةِ للتمكين، أفتـَرَونَ أمَّةً تتنازع وهي في مرحلة الاستضعاف؛ ماذا يصنع بعضُها ببعض إذا مُكِّنَ لها وعند وجود السلطان والمال والسلاح؟!؛ إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يَخشى على أصحابه الذين رباهم على عَيْنه أن تُفتَح عليهم الدنيا، فيتنافسوها كما تنافسها مَن قبلَهم؛ فتهلكهم كما أهلكتهم؛ فما تَرَوْنَ فيمن بَعدَهم ممَّن لم يَتَرَبَّ مِثلهم، ولا أَخلَصَ مِثلهم، ولا صَدَقَ مِثلهم؟!
إنَّ ضَعفَ الروابط بين الأفراد وكثرةَ المنازعات مِن علامات إرادة الدنيا وضعفِ الإخلاص والصدق؛ ممَّا تكون مصلحة الأمَّة فيه أن تبقى في فترة الإحراق ولا تتحول إلى فترة الإشراق؛ لأن فترةَ المِحنة تؤدي إلى خُمود الأمراض، وفترةَ التمكين تؤدي إلى ظهور الأعراض لهذه الأمراض.
فهل نعي الدرس ويُحِبُّ بعضُنا بعضًا، ويَحتمل بعضُنا بعضًا، ويَرحَم بعضُنا بعضًا، ويُشفِق بعضُنا على بعض، ويَنصَح بعضُنا بعضًا، ويَقبَل كلٌّ منا نصيحةَ الآخَر، ونُحقـِّق الأخُوةَ التي يَزول معها البُؤس بما يَفعل الأعداءُ {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]، أم ما زال بعضُنا يُوالي أعداءَ أمته على حساب إخوَتِه؟!
ثم يأتي التوجيه الثالث: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}: للتوكيد على المعنى الأول، أو لتأسيس هذه الضرورة للطائفة المؤمنة في كل أوقاتها، وقد سَبَق بيانُه وأهميتُه.
ثم يأتي التوجيه الرابع: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: وهذا الأمر من أعظم الأمور أهمية، خُصُوصًا في فترات الشدة والضيق التي قد يَتسلل اليأسُ فيها إلى القلوب؛ لِيَقطعَ على السائرين إلى الله طريقـَهم، والبِّشَارةُ مُهمَّة الرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ قال -تعالى-: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45-46]، وهي مُهِمَّةٌ وَرِثَهَا أهلُ العلم عنهم؛ ليقوموا بها في الأمة حتى تستمر مسيرتُها مُوقنةً بوَعد الله.
وإذا كان الأعداء يَخترعون التكهُّنات ليحافظوا على مسيرتهم رغم ثبوت كذبِها وخُلْفِها، وما تكهُّنُ أَحَدِ حاخاماتهم بأن يكون يومُ 16-3-2010م يومَ بناء الهيكل الثالث إلا واحدًا مِن هذه التكهنات الكاذبة الباطلة التي لم تقع، وحاولوا أن يجعلوها رمزًا يَستنهِضون به عزائمَ اليهود في العالم نحو هدم الأقصى؛ فالمسلمون هم أصحاب الحق في بشارات الخير والنصر التي يمتلئ بها القرآنُ، وتمتلئ بها سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعلى الدعاة إلى الله أن يُكثروا مِن ذِكرها في خُطبهم ودروسهم؛ لأن اليأس يَدفع الكثيرين للاستسلام للواقع وقـَبول التبعية للأعداء والرِّضا بموالاتهم؛ وهذا يُفسِّر كيف صار مناضلو الأمس الذين كانوا يريدون إلقاء إسرائيلَ في البحر حلفاءَها اليومَ في قـَمْع ذويهم وإخمادِ ثورتِهم، بل تعذيبِهم وانتهاكِ حُرُماتِهم، بل سَفـْكِ دمائهم مِن أجل الأعداء!
ومِن هذه المُبَشِّرَات: قولُه -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36-37].
وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105-106].
وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20-21].
وقوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
وقوله -تعالى-: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقوله -تعالى-: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128-129].
ومِنَ السُّنَّة المُطـَهَّرَة: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ» [رواه مسلم].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» [رواه مسلم].
وفي الحديث الآخَر: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» [متفق عليه]، وفي رواية: «لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» [رواه مسلم]، وكُلُّهَا في الصحيح، وفي رواية: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
وسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً»؛ يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ [رواه أحمد، وصححه الألباني]، وغَيْرُ ذلك كِثِير.
ومِنَ المُبَشِّرَاتِ: النَّظـَرُ في سُنَنِ الأنبياء والمُرسَلين؛ فسُنَّةُ الله في كَسْر الجَبَّارِينَ ونَصْرِ المُستضعَفينَ مَعلومةٌ... لا تبديلَ لسُنَّة الله؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43]، وازديادُ الظلم والبَغي والعُدْوانِ مُؤْذِنٌ بِقـُرْبِ هَلاك المُجرِمين الظالمين.
ثم ذَكَرَتْ الآياتُ توجيهًا ضِمنيًّا في دعاء موسى وهارون -عليهما السلام- وقـَبْلَ ذلك دعاء المؤمنين: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}؛ فالدعاءُ مِن أعظم الواجبات، ومِن أهم أسباب النصر والفـَرَج، ولرُبَّمَا بدعوة صادقة في وقت إجابة تتغير الحياةُ على وَجه الأرض!
وفي قول موسى -عليه السلام-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}استحضارُ مُلْكِ الله -سبحانه-، وأنه هو الذي يُؤتي مَن يَشاء ما يَشاء؛ ففِرعونُ ومَلَؤُه لم يَأتوا بالزينة والمال والسلطان مِن عِندِ أنفسِهم؛ بل هو إيتاءُ اللهِ لهم ابتلاءً وامتحانًا لعباده، واللامُ في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} هي لامُ العاقبة، أو لامُ التعليل لفِعل الله -سبحانه- بعلمه وحكمته، وهذا أقرب؛ فليست لامَ التعليل لبيان الحكمة الشرعية، بل لامُ التعليل للأمْر القـَدَريِّ الكَوْنِيِّ؛ فالله هو الذي قـَدَّرَ وجودَ مَن يُضِلُّ عن سبيله، ولو أراد أن يَمنعهم عما يُضِلُّونَ به الناس لَمَنَعَهُمْ؛ ولكنْ هو الذي يَجْعَلُ، وهو الذي يَخلُقُ أفعالَ العِباد؛ كما في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ فالفتنة مِن قـَدَرِ الله على الوَجهين؛ فعلى التفسير الأول؛ أي: لا تجعلهم يَفتوننا عن ديننا، وعلى الثاني؛ أي: لا تجعلنا فتنةً لهم بأن يَظنُّوا أنهم على الحق إذا هزمونا. واستحضارُ هذه المعاني يُصَغـِّرُ الخلقَ في قلب العبد، ويُعَظـِّمُ أمرَ ربه، ويُكبِّرُه تكبيرًا، فيَتحقق له ما أمر به مِن كمال التوكل والتفويض إلى المَلِك الحَقِّ -سبحانه-.
ثم الدعاء على الكافرين مِن أعظم أسباب هلاكهم ومَحْقِ مَكرِهم وأن يَرتدَّ كَيدُهم عليهم؛ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]؛ فتصبح الأموالُ المُنفـَقةُ في الصَدِّ عن سبيل الله هَبَاءً مَنثورًا، ومَن عَلِمَ اللهُ مُوافاتَه إياه على الكفر يكون الدعاء عليه بالهلاك سَبَبًا في نـَيْلِ جزائه وعقابه.
واليقين بإجابة الدعاء مِن أسباب إجابته؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ» [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]، وقال الله -تعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}، وَوَرَدَ بصيغة الماضي رغم أنه لم يتحقق بَعْدُ على أرض الواقع؛ إلا أنَّ أمْرَ الله نافذٌ يَقينًا؛ فكأنه في حِسِّ المؤمن قد كان بِلا فـَرْقٍ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
ثم يأتي توجيهان عظيمان يَحتاج إليهما المؤمنون دائمًا في فترات المحن، بل في كل حين:
الأول منهما: الاستقامة؛ ففترات الشدة تحصل فيها أنواعٌ مِنَ الانحراف عن الجادة، خُصُوصًا إذا طالت؛ فلابد مِنَ الثبات والصبر والاستمرار على نفس الطريق الذي أَيْقـَنَ المؤمنون بأنه صراطُ الله؛ بما بَيَّنه اللهُ لهم مِن وَحْيه، دون نَظـَر إلى النتائج، ولو لم يَلـُحْ في الأُفـُقِ شيءٌ مِنَ النور؛ فالنهارُ طالعٌ لا مَحَالةَ، والنورُ آتٍ بلا شك، والليلُ سوف يَضمحِلُّ قطعًا؛ فعَلامَ التَّلَوُّنُ؟! وعَلامَ الرجوعُ إلى الجاهلية؟! وعَلامَ الانحرافُ بَعْدَ الاستقامةِ؟!
الثاني: تَرْكُ اتباع سبيل الذين لا يَعلمون؛ لأن الانحراف عن الصراط المستقيم يَستلزم قـَبولَ أهواء أهل الباطل وجهالاتِهم وآرائِهم؛ قال الله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19].
فاتِّبَاعُ أهواء أهل الجاهلية -ولو كان طلبًا لنفعهم أو دفعًا لضَرَرِهم- لا يُغني عن العبد مِنَ الله شيئًا؛ إذ هو وَحْدَه مالكُ النَّفع والضَّرِّ، واتباعُهم هو مُوالاةٌ لهم تـُلحِق العبدَ بالظالمينَ وتَجعلُه منهم، وتـُفقِدُه وَلايةَ اللهِ؛ إذ هو -سبحانه وتعالى- وَلِيُّ المُتَّقِين. وإذا كان المؤمنُ مَنـْهِيًّا عن اتباع سبيل الذين لا يعلمون؛ فإنَّ كَوْنَه مِن الذين لا يَعلمون مَنـْهِيٌّ عنه بالأَوْلَى والأَحْرَى؛ فلابُد مِنَ العلم بالوَحي المُنـَزَّل؛ حتى يَتخلَّصَ الإنسانُ مِن الجهل، ويُميِّزَ بين سبيل أهل الجهل وسبيلِ أهل الحق، والعِلْمُ النافعُ هو العلم الذي في القلب، لا مُجَرَّدَ الذي على اللسان -والله المستعان-.
إخوةَ الإسلام:
هل عَلِمتم لماذا نحن مُتَحَيِّرُونَ فيما نصنعه؟ وهل أدركتم أنَّ عَدَمَ قيامنا بواجب وقتنا كأمَّة سَبَبٌ لغـَلْق أبوابٍ مِنَ القـُدْرَة والبَصِيرة؛ لن تـُفتَح إلا إذا بدأنا الصُّعودَ وسِرْنَا على الطريق؟
اللهُمَّ مُنـْزِلَ الكتاب، ومُجْرِيَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، سريعَ الحساب؛ اهزمِ اليهودَ والنصارى والمنافقين وسائرَ الكَفـَرَة والظالمين، وزَلْزِلْهُمْ، وانصرنا عليهم، وهَيِّئْ لأمتنا أمْرَ رُشْدٍ، وَوَلِّ أُمُورَنا خِيَارَنا، ولا تُوَلِّ أُمُورَنا شِرَارَنا.
ربَّنا اغفرْ لنا ذنوبَنا، وإسرافـَنا في أمْرِنا، وثـَبِّتْ أقدامَنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
موقع وذكر الإسلامي
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105-106].
وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20-21].
وقوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
وقوله -تعالى-: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقوله -تعالى-: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128-129].
ومِنَ السُّنَّة المُطـَهَّرَة: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ» [رواه مسلم].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» [رواه مسلم].
وفي الحديث الآخَر: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» [متفق عليه]، وفي رواية: «لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» [رواه مسلم]، وكُلُّهَا في الصحيح، وفي رواية: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
وسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً»؛ يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ [رواه أحمد، وصححه الألباني]، وغَيْرُ ذلك كِثِير.
ومِنَ المُبَشِّرَاتِ: النَّظـَرُ في سُنَنِ الأنبياء والمُرسَلين؛ فسُنَّةُ الله في كَسْر الجَبَّارِينَ ونَصْرِ المُستضعَفينَ مَعلومةٌ... لا تبديلَ لسُنَّة الله؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43]، وازديادُ الظلم والبَغي والعُدْوانِ مُؤْذِنٌ بِقـُرْبِ هَلاك المُجرِمين الظالمين.
ثم ذَكَرَتْ الآياتُ توجيهًا ضِمنيًّا في دعاء موسى وهارون -عليهما السلام- وقـَبْلَ ذلك دعاء المؤمنين: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}؛ فالدعاءُ مِن أعظم الواجبات، ومِن أهم أسباب النصر والفـَرَج، ولرُبَّمَا بدعوة صادقة في وقت إجابة تتغير الحياةُ على وَجه الأرض!
وفي قول موسى -عليه السلام-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}استحضارُ مُلْكِ الله -سبحانه-، وأنه هو الذي يُؤتي مَن يَشاء ما يَشاء؛ ففِرعونُ ومَلَؤُه لم يَأتوا بالزينة والمال والسلطان مِن عِندِ أنفسِهم؛ بل هو إيتاءُ اللهِ لهم ابتلاءً وامتحانًا لعباده، واللامُ في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} هي لامُ العاقبة، أو لامُ التعليل لفِعل الله -سبحانه- بعلمه وحكمته، وهذا أقرب؛ فليست لامَ التعليل لبيان الحكمة الشرعية، بل لامُ التعليل للأمْر القـَدَريِّ الكَوْنِيِّ؛ فالله هو الذي قـَدَّرَ وجودَ مَن يُضِلُّ عن سبيله، ولو أراد أن يَمنعهم عما يُضِلُّونَ به الناس لَمَنَعَهُمْ؛ ولكنْ هو الذي يَجْعَلُ، وهو الذي يَخلُقُ أفعالَ العِباد؛ كما في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ فالفتنة مِن قـَدَرِ الله على الوَجهين؛ فعلى التفسير الأول؛ أي: لا تجعلهم يَفتوننا عن ديننا، وعلى الثاني؛ أي: لا تجعلنا فتنةً لهم بأن يَظنُّوا أنهم على الحق إذا هزمونا. واستحضارُ هذه المعاني يُصَغـِّرُ الخلقَ في قلب العبد، ويُعَظـِّمُ أمرَ ربه، ويُكبِّرُه تكبيرًا، فيَتحقق له ما أمر به مِن كمال التوكل والتفويض إلى المَلِك الحَقِّ -سبحانه-.
ثم الدعاء على الكافرين مِن أعظم أسباب هلاكهم ومَحْقِ مَكرِهم وأن يَرتدَّ كَيدُهم عليهم؛ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]؛ فتصبح الأموالُ المُنفـَقةُ في الصَدِّ عن سبيل الله هَبَاءً مَنثورًا، ومَن عَلِمَ اللهُ مُوافاتَه إياه على الكفر يكون الدعاء عليه بالهلاك سَبَبًا في نـَيْلِ جزائه وعقابه.
واليقين بإجابة الدعاء مِن أسباب إجابته؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ» [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]، وقال الله -تعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}، وَوَرَدَ بصيغة الماضي رغم أنه لم يتحقق بَعْدُ على أرض الواقع؛ إلا أنَّ أمْرَ الله نافذٌ يَقينًا؛ فكأنه في حِسِّ المؤمن قد كان بِلا فـَرْقٍ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
ثم يأتي توجيهان عظيمان يَحتاج إليهما المؤمنون دائمًا في فترات المحن، بل في كل حين:
الأول منهما: الاستقامة؛ ففترات الشدة تحصل فيها أنواعٌ مِنَ الانحراف عن الجادة، خُصُوصًا إذا طالت؛ فلابد مِنَ الثبات والصبر والاستمرار على نفس الطريق الذي أَيْقـَنَ المؤمنون بأنه صراطُ الله؛ بما بَيَّنه اللهُ لهم مِن وَحْيه، دون نَظـَر إلى النتائج، ولو لم يَلـُحْ في الأُفـُقِ شيءٌ مِنَ النور؛ فالنهارُ طالعٌ لا مَحَالةَ، والنورُ آتٍ بلا شك، والليلُ سوف يَضمحِلُّ قطعًا؛ فعَلامَ التَّلَوُّنُ؟! وعَلامَ الرجوعُ إلى الجاهلية؟! وعَلامَ الانحرافُ بَعْدَ الاستقامةِ؟!
الثاني: تَرْكُ اتباع سبيل الذين لا يَعلمون؛ لأن الانحراف عن الصراط المستقيم يَستلزم قـَبولَ أهواء أهل الباطل وجهالاتِهم وآرائِهم؛ قال الله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19].
فاتِّبَاعُ أهواء أهل الجاهلية -ولو كان طلبًا لنفعهم أو دفعًا لضَرَرِهم- لا يُغني عن العبد مِنَ الله شيئًا؛ إذ هو وَحْدَه مالكُ النَّفع والضَّرِّ، واتباعُهم هو مُوالاةٌ لهم تـُلحِق العبدَ بالظالمينَ وتَجعلُه منهم، وتـُفقِدُه وَلايةَ اللهِ؛ إذ هو -سبحانه وتعالى- وَلِيُّ المُتَّقِين. وإذا كان المؤمنُ مَنـْهِيًّا عن اتباع سبيل الذين لا يعلمون؛ فإنَّ كَوْنَه مِن الذين لا يَعلمون مَنـْهِيٌّ عنه بالأَوْلَى والأَحْرَى؛ فلابُد مِنَ العلم بالوَحي المُنـَزَّل؛ حتى يَتخلَّصَ الإنسانُ مِن الجهل، ويُميِّزَ بين سبيل أهل الجهل وسبيلِ أهل الحق، والعِلْمُ النافعُ هو العلم الذي في القلب، لا مُجَرَّدَ الذي على اللسان -والله المستعان-.
إخوةَ الإسلام:
هل عَلِمتم لماذا نحن مُتَحَيِّرُونَ فيما نصنعه؟ وهل أدركتم أنَّ عَدَمَ قيامنا بواجب وقتنا كأمَّة سَبَبٌ لغـَلْق أبوابٍ مِنَ القـُدْرَة والبَصِيرة؛ لن تـُفتَح إلا إذا بدأنا الصُّعودَ وسِرْنَا على الطريق؟
اللهُمَّ مُنـْزِلَ الكتاب، ومُجْرِيَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، سريعَ الحساب؛ اهزمِ اليهودَ والنصارى والمنافقين وسائرَ الكَفـَرَة والظالمين، وزَلْزِلْهُمْ، وانصرنا عليهم، وهَيِّئْ لأمتنا أمْرَ رُشْدٍ، وَوَلِّ أُمُورَنا خِيَارَنا، ولا تُوَلِّ أُمُورَنا شِرَارَنا.
ربَّنا اغفرْ لنا ذنوبَنا، وإسرافـَنا في أمْرِنا، وثـَبِّتْ أقدامَنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
موقع وذكر الإسلامي
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
1 تعليقات so far
جزاك الله خيرا شيخنا الجليل
التعبيراتالتعبيرات